“حفل المُجوهرات” بـ”آث يني” في جبال جرجرة بتيزي وزو .. تظاهرة أصبحت منذ سنوات المَقصَدَ المُحبب للآلاف من الفتيات المُقبلات على الزَواج.
وهذا لاقتناء أجمل وألمع الحُليّ والمجوهرات من مختلف الأنواع، وبأفضل الأسعار وأزهدها.
يبحثن فيه عن وضع بصمة مُميّزة على أعراسهن، لا يمكن أن يضمنها إلاّ حرفيون ورثوا صناعة الفضة أبا عن جد.
حرفيون حوّلوا بيوتهم، على مدار السنة، إلى وَرشات مفتوحة لاِبداع قطع فنية لا يصدأ لا معدنها ولا قيمتها بمُرور الزمن.
“عرسي.كوم” تنقلت إلى الحفل لتحضر الطبعة الخامسة عشر من الحفل، وتنقل إليكم أجواء العرض والبيع والشراء، وأنواع المجوهرات، وتقترب من حرفيي المنطقة.
ترقبوا آراء وشهادات الزوّار ضمن هذا “الروبورتاج” ..
“آث يني” تُرحب بضُيوفها
كانت السّاعة تُشير إلى التاسعة صباحا عندما وصلنا إلى المحطة الجديدة بولاية تيزي وزو.
الحرارة لم تبلغ بعد الذروة التي قد تصل إلى 40 درجة في الأيام الأخيرة من شهر جويلية. إستقلينا حافلة نقل صغيرة نحو محطة بني دوالة رقم 6، والتي لم تستغرق أكثر من 10 دقائق.
وعند وُصولنا لاحظنا حَركة غير عادية، فالكثير كان يسأل عن كيفية التنقل إلى “بني يني” أو “آث يني” بالأمازيغية.
حتى أنّ أحد قباض التذاكر وبمُجرد أن لاحظ حَيرتنا حتى خَمّن وِجهتنا سائلا:”آث يني؟”
وبعدما أجبناه أن نعم، قال مُرحِبا:“اِركبوا سأُقلكم إلى غاية مكان تنظيم حفل المجوهرات”.
كان علينا أن نسير 45 دقيقة من محطة بني دوالة رقم 6 للوُصول إلى دائرة “آث يني”.
التي تشمل ثلاثة بلديات وهي:
ايبودرارن، ياطافن، وبلدية آث يني التي تتربع على مساحة تزيد عن 34 كيلومترا.
أما حفل المجوهرات فيُقام في قرية “توريرت ميمون” التي تُعتبر واحدة من بين ست قرى أخرى تابعة للبلدية:
“توريرت الحجاج، اقني احمد، اث لاربعا، اث لحسن، تيغزيرت، تانساوت”. وتضاف إليها قرية ثامنة وهي “توريرث خلف” التي كانت تابعة لقرية “آث لحسن”.
مجوهرات فضّية ورَمزية ذهبية !
في الحَافلة التي تُقلّنا من محطة بني دوالة 6 إلى قرية “توريرت ميمون”.
كانت لنا فُرصة الالتقاء بالحسين، الشّاب صَاحب الـ32 سنة، الذي كان جالسا أمامنا.
وبمُجرد أن عَلِم أننا قادمون لزيارة حفل المجوهرات حتى بادلنا أطراف الحديث.
وأخبرنا بأنه اِبن المنطقة، مُغترب في بريطانيا منذ ما يُقارب العشر سنوات.
حيث غادر قريته للعمل في اوروبا أسابيع بعد تخرجه من الجامعة، وطيلة الفترة الماضية لم يتسنّ له الوقت لأن يزور الحفل.
غير أنه صمّم هذه المرّة، ورغم كثرة اِرتباطاته العائلية والعَمَلِية، أن يكون حَاضرا فيه.
خاصّة وأنه يعتبره أكثر من مجرد مُناسبة تجارية لبيع المجوهرات والحلي التقليدية والعصرية.
وشبَهه بالأعياد وحفلات الأعراس التي عادة ما تكون فرصة ثمينة يلتقي فيها أفراد العائلة الواحدة,
كما أنه، وقبيل موعد زواجه المرتقب قرر أن يُهديَ زوجته حليًا تقليدية جميلة.
نبذة تاريخية لقرية بني يني
الحسين، الذي كان الشغف بقريته والحنين إليها باديا في نبرة صوته، بل وحتى في نظراته، لم يتوقف عند الحديث عن المعرض.
فغاص بنا في تاريخ القَرية القديم، بدءًا بتسميتها التي قال إنّ هناك ثلاثة روايات متداولة حولها.
منها أنّ أوّل رجل وطأ المنطقة يُدعى “يني”، وثانية أنّ التسمية آتية من “يُوّن” أي العدد 1.
ورواية ثالثة تقول بأنّ أصل التسمية هو الفعل “ني” أي يرفع.
اِعتدل الحسين في جلسته وهو يستعد لسَرد المزيد من التفاصيل.
فبعد أن لاحظ اهتمامنا بتاريخ المدينة زادت شهيته في تذكر ما سمعه من أجداده تارة أو قرأه من كتب تارة أخرى عن المنطقة.
رمزية المجزهرات الفضية التقليدية
حيث أكد أنّ حِرفة المجوهراتي آتية من “آيت عباس” في “ايغيل علي” بولاية بجاية، وأنّ هذه المجوهرات ليست أداة للزينة فقط.
ولكن لديها دلالة تاريخية، كونها كانت تستعمل في حلِّ الصراعات ما جعلها رمزا للصُلح والسلم.
وحتى الآن، يُضيف الحسين، فإنّ الزوجة عادة ما ترتدي هذه المجوهرات كضمان للأمن والطمأنينة.
كما أن الرجل يُهدي زوجته هذه المجوهرات التقليدية من الفضة عند إنجاب أول طفل، كرمز لخصوبة المرأة .. والطبيعة.
وصارحنا الحسين أنّ أغلب المعلومات التاريخية التي يعرفها عن قريته اِستقاها بعد مُغادرته لها، حيث علّق مُتحسّرا:
“عادة لا نشعر بقيمة ما نملك إلا بعد فقدانه”، وأضاف:
“العشر سنوات التي عشت فيها مغتربا بقدر ما أبعدتني عن قريتي، بقدر ما قرّبتني منها وِجدانيا” ..
قال مُرافقنا هذا ثمّ ألقى بنظره من نافذة الحافلة على جبال قرى”آث يني”، كأنه يطلب الغفران من حَبيبة غاب عنها طويلا.
أو كأنما يستعين بطبيعة المنطقة الفاتنة وبشمسها السّاطعة على اِستحضار ذكريات أخرى .. بعيدة وجميلة.
قصة أخرى عن تاريخ المجوهرات الفضية القبائلية
ومرّت دقائق قبل أن يلتفت الحسين نحونا مرّة أخرى كما لو كان قد عاد لتَوّه من رحلة في الزمن اِستكشف فيها قصّة أخرى من تاريخ المنطقة العريق، فأخبرنا أنّ سُكان “آث يني”
في فترة التواجد العثماني في الجزائر، كانوا يصنعون قطعا نقدية مُشابهة لتلك الأصلية.
ليس بغرض التزوير والاِحتيال، ولكن لإغراق السُوق والتأثير سِلبا على الاِقتصاد التركي.
بعدما فرض الأتراك عليهم دفع ضرائب مرتفعة، ولتسوية الخلاف، عرض داي العاصمة عليهم امتلاك مساحات كبيرة من الأراضي الفلاحية في المتيجة مُقابل التوقف عن صناعة نقود مزيفة.
غير أنّ السُكان اعتبروا هذا الاقتراح إهانة لهم، ما جعلهم يُقابلون عرضه بردٍ أرادوه حَاملا لرِسالة مُبطّنة له، حيث قالوا إنهم سيُوافقون في حال قيامه بنقل جبل جرجرة إلى المتيجة.
يقصدون من ذلك أنهم ليسوا مُستعدين ولا قادرين على تعويض المناظر الطبيعية الخلابة التي يُوفرها لهم الجبل.
واِنتهى الأمر بأن اِتفق الطّرفان على بناء مسجد في “بني يني” مُقابل التوقف عن صِناعة النقود المُزيفة.
توقفت بنا الحَافلة عند مدخل حفل المجوهرات بـ”آث يني”، ونحن نفكر بعد حديثنا مع الحُسين أنّ ثروة المنطقة ليس في مجوهراتها الفضيّة فقط، ولكن في تاريخها الذهبي.
سيدات يبحثن عن بصمة مميّزة لحَفلات زيجاتهن في “آث يني”
اِنتهت رِحلة الحَافلة القصيرة، أو رِحلة الذاكرة العَميقة التي زادتنا شغفا بزِيارة هذا الحَفل، خاصّة برِواية الحسين الشغوف بكل ما هو تقليدي.
والذي رافقنا إلى غاية مدخل الحفل، قبل أن يتركنا نزور الحفل ويعرض علينا خدماته في حال احتجنا لشيء.
وتزامن مقدمنا مع تنظيم سُكان القرية لمأدبة غذائية “وعدة” بمناسبة نجاح أبنائهم في اِمتحان نهاية التعليم الثانوي “بكالوريا” دورة جوان 2018، على ضفاف نهر ساحر الجَمال أسفل القرية يُسمى “بركموش”.
بين جمال المجوهرات والقرية
فقبل أن يسحرنا بريق أنواع المجوهرات المعروضة في الحفل، فإنّ طبيعة جبال “آث يني” كانت كفيلة بأسر أنظارنا، وبجعلنا نقف لها صَامتين اِحتراما .. أشجار مُتجذرة في الأرض وبأغصان يافعة، كأنها تعلم الإنسان كيف يجمع بين الحفاظ على الأصالة والإقبال على العصرنة.
تقطعها مُنحدرات أشبه بتجاعيد على وجه سيدة مُسنة شاهدة على حِكمتها، أما القرية، فمنازلها العتيقة، والتي وإن اِستحوذت على اِهتمام الزوّار بهندستها القديمة، وبجُدرانها العتيقة المصنوعة من الصّخور والحِجارة.
إلاّ أنها تنازلت وأورثت البنايات الجديدة أسقف القَرمود الأحمر، ليكتمل مشهد زمني مُتناسق بين التاريخ والحاضر، لا غلبة فيه لأحد على الآخر.
91 مشارك خلال حفل المجوهرات بآث يني
ولم يكن الحفل، بدوره، ليَخون أفق اِنتظارنا، فقد كان الموعد مع 91 مُشاركا منهم 82 مجوهراتي، ولكن أيضا جناح للفساتين التقليدية الأمازيغية، وآخر للصابون التقليدي.
وثالت مخصص للحديد المُشكل، وأخرى للإطارات والكريستال والمنتجات الجلدية وحتى جناح مُخصص لصناعة الحطب.
وهو الأمر الذي يُفسر الحُضور الكبير من الفتيات المُقبلات على الزواج في أروقة الحفل ممن يبحثن عن تمييز أعراسهن ببصمة تقليدية. خاصّة وأنّ العارضين قادمين من سِت ولايات، وهي: تبسة، بومرداس، وهران، تيارت، سيدي بلعباس، وتيزي وزو.
أمّا الزوّار فكانوا من مناطق مختلف من الوطن، وبأعداد كبيرة، كيف لا؟ ! وهو من أهم حفلات المجوهرات في الجزائر. إن لم يكن الأهم، حيث يسعى المنظمون لأن يبلغوا في نهاية حفل طبعة هذه السنة عدد زيارات لا تقل عن الـ40 ألف.
مجوهرات للاستعمال اليومي وأخرى مُخصصة للأعراس والمناسبات
تنقلت “عرسي.كوم” بين المواقع الثلاثة المُخصَصة للحفل، وهي دار الشباب علي كداش، التي يوجد بها مجوهرات “بني يني” وحرف أخرى.
وثانية هي متوسطة العربي مزاني، التي بها مجوهرات المنطقة كذلك، وموقع ثالثة هو الفضاء الثقافي مولود معمري، الذي خُصص للإعلام.
وتمكننا خلال هذه الجولات من الحديث إلى عدد من الباعة، بعضهم حرفيون، ورثوا صناعة المجوهرات أبا عن جد، وآخرون قدِموا من وِلايات أخرى بغرض عرض مُنتجاتهم.
التنوع و الجودة بآث يني
لكنّ التنوع والجودة مضمونين، مثلما أكده لنا أحد حرفيي المنطقة، الذي عدد في حَديثه إلينا أشكال وأنواع المجوهرات المصنوعة مثل:
“امشلوخ”، وهو عِبارة عن سِوار سميك.
و”تاعصابث” وهو حلي يُوضع على الجبين، و”امشبوك” وهي قلادة ضخمة، و”اخلخال” الذي تضعه النسوة حول أرجلهن.
و”تاحزامت” أي الحزام، و”تيغدماتين” وهي أقراط، والحرز وهو عبارة عن قلادة طويلة بها مربع فضي صغير، وغيرها من المجوهرات ذات الأشكال والألوان والأنواع المُختلفة.
فيما ذهب حرفي آخر إلى التأكيد على التخفيضات التي يُمكن أن يستفيد منها الزّائر الزّبون خلال أيام المعرض.
حيث كشف لنا عن عُروضٍ جِد مُغرية، لا يمكن بحال من الأحوال أن تتكرّر في أيام أو أشهر السنة العادية.
وأشار بائع آخر على أنّ صِناعة المجوهرات الفضية بالطريقة التقليدية تحتاج إلى إتقان ولكن أيضا إلى وقت وجهد كبيرين. فصناعة القلادة الواحدة تستنزف قرابة اليومين من العمل المتواصل.
حفل المجوهرات لإيجاد هدية أو حلي التصديرة
وكان الحفل يستقبل العشرات من الزوّار منذ السّاعات الأولى من الصّباح.
خاصّة بالنسبة للذين أتوا من مناطق بعيدة، ومُضطَرين لأن يُنهوا الزيارة مُبكرا، بعضهم قَدِمَ، بواسطة وسائل النقل الجماعية.
أما آخرون فجاؤوا في سياراتهم الخاصّة ..
المهم أن لا يُضيعوا هذه المناسبة الهامة، خاصّة بالنسبة للفتيات المُقبلات على الزواج.
على غرار “سلمى” الشابة القادمة من ولاية بجاية، والتي أخبرتنا أنها تزور الحفل للمرّة الثانية، الأولى كانت منذ طبعتين اثنتين.
رافقت خلالها صديقة لها وساعدتها على اِنتقاء حُلِيّ جميلة ترتديها في “تصديرة” زفافها ، أما هذه المرّة، فقد اقترب موعد ارتباطها.
وتسعى لأن تتجمّل بدورها بالفضة التي تفضلها على المجوهرات الذهبية رغم أنها قالت إنه لا يمكن تعويض الذهب كلية.
إلا أنه يمكن ارتداء ملابس تقليدية لبعض المناطق لتضع معها مجوهرات فضية ملائمة، ولنفس السبب قدمت سيدة خمسينية، قالت إنها من بومرداس، حيث تريد أن تبحث عن “مهيبة” لخطيبة ابنها بمناسبة عيد الأضحى الذي ينتظر أن يُحييه الجزائريون بعد أسابيع.
على أن تكون مجوهرات تجمع بين الأناقة والأصلة والعصرنة، وهو ما يصعب العثور عليه، حسبها، في المحلات العادية التي تنظر إلى هذه المجوهرات على أنها سِلعة تجارية أكثر منها فنية.
الذهب يستبدل بالفضة لدوافع إقتصادية
غير أنّ المناسبات والحفلات ليست الدافع الوحيد لزيارة حفل المجوهرات، مثلما يُؤكده فريد القادم من وِلاية تيبازة. والذي صارحنا بأنه يبحث لزَوجته عن قطع فضية لم يسبق وأن أهدى لها مثلها.
كما أشارت أخريات إلى البعد أسباب اِقتصادية جعلتهن يُعوّضن المجوهرات الذهبية باهضة الثمن بأخرى فضيّة، أقل ثمنا وقد تكون أجمل شكلا.
خاصة بالنسبة للمدعوات إلى الأعراس خلال الفترة الصيفية، واللائي يُمكنهن تعويض الذهب بالفضة.
وعبّر أغلب زوّارِ الحفل عن إعجابهم بهذه التظاهرات، وعن أملهم بأن تتكرّر أكثر من مرّة في السنة. وفي أكثر من منطقة.
وأن تشمل كل أنواع الحِرف التقليدية التي قالوا إنها لا تُعَوَضُ في كلّ الأحوال بالمُنتجات العَصرية المُصّنعة بواسطة الآلات.
لا من حيث جماليتها، ولا من حيث رمزيتها التاريخية.
برنامج ثري يستمر إلى الجمعة المُقبل
غادرنا الحفل في حُدودِ الساعة الثالثة مساء، ونحن نحمل في حَقائبنا قِطع مجوهرات للذكرى.
وفي أذهاننا مشاهد لمناظر طبيعية لا تنسى، والأعمق من هذا وذاك اِمتنان للترحاب الذي لاقيناه من سُكان منطقة مِضيافة.
ويُنتظر أن يستمر حفل المجوهرات يوميا من الساعة التاسعة صباحا إلى السابعة مساءً إلى غاية الجمعة المقبل.
حيث تُنظم اِحتفالية اختتام على مستوى متوسطة العربي مزياني، يتم خلالها منح شهادات مشاركة للحرفيين.
No Comments